

إيما راؤولت
شاعرة هولندية مقيمة في الولايات المتحدة، ومترجمة من اللغة الهولندية والألمانية. حائزة على جوائز أدبية. ظهرت أعمالها في إل أيه ريفيوز اوف بوكس، وليتراري هب، وغورنيكا. مؤخراً، نشرت دار هاربر، ودار بيكادور ترجمتها لرواية (كان علينا مسح هذا المنشور) لـ هانا بيرفوتس.
غادرتُ مسقط رأسي وأنا في السادسة عشرة من عمري، متمسكة بأول فرصة للهروب. شعرتُ أن هولندا لا يمكن أن تكون وطناً. نشأتُ في بلدة صغيرة، جعلتني أشعر أن كل الأعين كانت تطاردني. كنتٌ كويرية، واستخدمتُ مصطلحات لا تقال إلا في الكتب جعلتني منبوذة من قبل أقراني، وقوبلتُ بعداء عام. أحتاج إلى الخروج من هولندا، حيث أتعفن. قبلتُ تمويلاً من الحكومة الهولندية لدراسة الأدب في كولن في ألمانيا، وبعد عدة سنوات، انتقلت إلى إسكتلندا، ومن ثم المجر، ومن ثم إنجلترا.
ومع ذلك، كنتُ أصغر من أن أدرك أنني سأفهم هولندا يوماً ما، وأنني سأظل قلقة بشأن عدم انتمائي، مثل سن يتقلقل. هذا الوطن الذي لم أغرس حبي فيه. بعد بضع سنوات من منفاي الاختياري، طلبتُ من والدتي أن توفر لي قصائد من الشعر الهولندي، لأن الشعر بدا دائماً أفضل طريقة للتعامل مع المواضيع الحساسة: جانبي، مُجزأ، مثل قراءة الطالع في القهوة، واكتشاف الأنماط في الفراغ. عرفتني على الشاعر هانز لوديزن، وأعطتني نسخة من أعماله المجمعة. فوجئتُ بشعوري بالتقارب الفوري مع الصوت الذي تحدث إليّ من الصفحات.
كان هانز لوديزن طفلاً ضعيفاً ووحيداً، إذا كان محاطاً بامتياز طبقي. ولد في عام 1924، ونشأ في ضاحية فاسينار الساحلية الغنية، خارج مدينة لاهاي. نجت عائلته بشكل أو بآخر من السواد الذي أتى بسبب الدمار الاقتصادي والنازية، وخلق والده، المدرس الذي تحول إلى رجل أعمال عصامي، بيئة منزلية أنيقة نادرة مليئة بالفن والأدب والموسيقى الكلاسيكية. كانت مشاكل لوديزن محلية وشخصية: عانى من الربو وغالباً ما غيبته هذه المعاناة عن المدرسة. واجه صعوبة في التواصل مع الأطفال الآخرين. أما أقرب أصدقائه فكانوا بعض معلميه، والنمل الذي قضى ساعات يدقق في عالمهم الواقع في الفناء الخلفي.
في المدرسة الثانوية، أصبح مهرجاً وحكواتياً يروي الحكايات الطويلة، وقارئاً لنيتشه، ومتطفلاً على علم التنجيم وقراءة الكف. ربما كان اهتمامه بالعرافة محاولة أولى للمس خيوط أكثر قرباً إلى الواقع، لكنه أعطاه أيضاً دوراً يختبئ وراءه. في المدرسة الإعدادية، فعلتُ شيئاً مشابهاً: حولني اهتمامي بالسحر إلى لعب دور عرافة، ووضعتُ بطاقات التارو بين أيدي الفتيات الجميلات اللواتي رافقن فتيان عابسين. أتذكر الإحساس بالحماس الشديد بعدما صارت الأعين تنظر لي بمثابة قاضية تقرر القدر – وبالراحة في تفادي القواعد الاجتماعية (كنتُ أعرف أنني لا يمكن أن أرافق فتى عابس، أو أن أكونه). كافح هانس مع هويته المثلية أيضًا. قرأ مقالات النمل التي كتبها عالم الحشرات والنفساني السويسري أوغست-هنري فوريل، والتي قادته إلى قراءة كتاب فوريل (السؤال الجنسي) والذي صنّف – وفقًا للرأي السائد في ذلك الوقت – المثلية جنسية كانحراف سلوكي. كان على دراية بانجذابه للرجال لفترة من الوقت وأحبطه فشله في العثور على مكان في المجتمع.
لذلك، تاق هانز، كما تقتُ أنا، إلى الهروب، وإن كان مدفوعًا أيضًا بالسياق السياسي والاقتصادي الفريد لعصره – شعر العديد من المراهقين الهولنديين أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية بأنهم محرومون من الآفاق المستقبلية في بلد كان قد جثم على ركبتيه. على أي حال، أصبح هانز يركز بشكل متزايد على الانتقال إلى الخارج لتشكيل مسار جديد لنفسه. كان السفر الدولي صعبًا للغاية، ولكن من خلال مزيج من الموهبة والحظ والاستفادة من علاقات والده، تمكن أولاً من قضاء فترة قصيرة في لندن، حيث اشترى دبابيس تثبيت الحشرات للمتحف الوطني الهولندي للتاريخ الطبيعي، ثم حصل على مقعد في كلية أمهيرست في ماساتشوستس. في سبتمبر 1946، عندما كان في الحادية والعشرين من عمره، استقل باخرة هولندية أمريكية متجهة عبر المحيط الأطلسي، بعد أربعة أشهر فقط من أول رحلة تدشنها الشركة للركاب. في هولندا، كان يفتقر إلى مؤهلات الالتحاق حتى لدرجة البكالوريوس في علم الأحياء، ولكن الارتباك في أمريكا حول معادلة الدرجات العلمية جعله فجأة يلتحق مباشرة ببرنامج الماجستير. لقد نجح في التسلل عبر ثقب المفتاح إلى حياة جديدة.
كان في الولايات المتحدة حين بدأ في بناء حياة فنية، حتى وإن كان يتعثر أكاديمياً. في جامعة أمهيرست، كون علاقة مع الشاعر جيمس ميريل الذي انبهر على الفور بعين هانز «الزرقاء البارقة مثل الشمس» وعقله الحيوي: «كانت أفكار هانز منظمة ومتنوعة أكثر من أفكاري. في مختبر الأحياء، أظهر لي النبض القرمزي للبيضة المخصبة. كان يريد مني أن أقرأ حكم شامفور، وأنظر إلى قناع من الكونغو، وأسمع سوناتات الكمان لبيتهوفن»، كتب ميريل في مذكراته عام 1993 التي حملت عنوان (شخص مختلف). كان ميريل مصدوماً عندما وقع هانز في حب صديقهما المشترك، الوسيم والرجولي سيلدون جيمس من طرف واحد. ولكن الانجذاب الأولي لميريل تحول إلى صداقة دائمة.
كان للتجوال في أنحاء الولايات المتحدة خلال فترات الاستراحة بين دراسته أثر إيجابي على هانز. في صيف عام 1947، قاد بالسيارة عبر البلاد إلى لوس أنجلوس مع مجموعة من الأصدقاء. في مذكراته، سجَّل تجربته الجنسية الأولى مع رجل آخر في هوليوود. «اسمه؟ نسيته.» في الربيع التالي، سافر بعد أن طلب من الغرباء أن يأخذوه بسياراتهم إلى نيو أورليانز، حيث التقى عدداً من الرجال ووقع رأساً على عقب في حب هيو ويلينغتون لافين، طالب تعرف عليه في حديقة عامة. كانت هذه اللحظة فارقة في حياته: في الأشهر التالية، بدأ في كتابة الشعر بشكلٍ وفير، وتمكَّن فجأةً من إطلاق سراح صوته الشعري المميز.
تعد قصائد هانز لودايزن أثيرية ورقيقة، وغالبًا ما تكون قصيرة، وتحوي دائمًا شكلاً حرًا وحروفًا صغيرة. فهي تجمع بين الاستبطان المذكراتي والصريح: أنا معارض جدًا للحياة / بحيث يمكنني البكاء طوال النهار. مع الصور الساحرة التي تشعر وكأنها مستحضرة من عالم الأحلام: سأتجول في العالم على أقدام من الفضة / مثل الصياد في النهار. تحتوي قصائده على قوارب وأغاني الطيور والقصور وطهارة الليل وأشجار الفاكهة وقمر البطيخ. وإذا كان لقصائده لون، فإنها ستكون بلون الكلوروفيل الزاهي لأوراق الشجر في الصيف.
عندما بدأتُ في قراءة مجموعته الشعرية لأول مرة، وجدتُ ملاذًا في قصائده الغريبة عن هذا العالم، الغنية بالتنبؤات والخفيفة كالريش في الوقت ذاته: الحياة تتحلق بجناحيها / كنسر فوق مذبحي ومن الظلال / أستفتي / ما سيحدث. الرجل الشاب الذي ظهر على غلاف الكتاب كان جذابًا وبدا شبيهاً بـ جون كينيدي، وعيناه الخفيفتان تتطلعان نحو أفق بعيد. وكلماته ترددت هذه الصورة: شخص يشتاق إلى تجارب جديدة ولكنه، قبل كل شيء، مهتم بتنمية خياله الخاص، ووضع حدود لحياته بسلسلة من الإعلانات الرقيقة: لن أعمل كثيرًا، لكنني لن أدنس العالم.
لامست تلك الكلمات روحي كشابة مترددة لا تعرف كيفية إيجاد حياة تغذي عقلها بدلاً من تسطيحه. من الأكاديميات المتكتلة والمضطربة، إلى العمل في المطاعم والعمل الوظيفي الجاد، وحتى الإجهاد في الفنون – كل خيار يبدو وكأنه مصمم لالتهامي. في تطلعات لودزين المعنوية والعنيدة: سآخذ الريح في ذراعيّ. قرأتُ رفضًا أنيقًا. غالبًا ما كان يشير إلى هولندا بسخرية، وشعرتُ أنني أبرر له ذلك. كان لديه رأي أكثر إيجابية، ولكنه لا يزال مترددًا، حيال الولايات المتحدة (تتميز شعريته بمناظر كلا من أمهيرست والساحل الغربي)، بلدًا اعتقدتُ أنني سأنتمي إليه يوماً ما. كذلك كتب بصراحة عن رغبته بالرجال.
لم يكن الشعر من المناهج الدراسية الرئيسية أثناء دراستي في المرحلة الثانوية في هولندا؛ فقد ثُبطت عزيمتي من قبل شريعة ذابلة أنتجها الرجال المبشرين والذين أكدوا بهذا الفعل أن هولندا ليست مكاناً لأناس مثلي. كانت والدتي قد شعرت بالإحباط بنفس الطريقة أثناء دراستها، لكنها أشارت إلى هانس لوديزن كصوتٍ أعجبها. واليوم، صار هو يتحدث إلي: صوتٌ كويري يصل إليّ عبر الأثير، شابٌّ، عاطفيٌّ، فوريٌ، معاكس تمامًا للبطش الأدبي الذكوري الذي قُدم لي في المدرسة – طريقة مختلفة في النطق والوجود بالهولندية. لا أبالغ إن قلتُ إنه ربما لم أكن سأدخل عالم الترجمة لو لم يكن لهذا الشاعر وجود. معه، أخيرًا، وجدتُ شيء هولندي يمكنني التعامل معه.
بعد أن ترجمتُ بعض قصائده دون أن أعرف تمامًا ما أفعله، أرسلتُ بعض الكتيبات الصغيرة المخيطة باليد، التي تحتوي على القصائد المترجمة، إلى بعض الأصدقاء المقربين. وقمت بشراء صندوق صوتي صغير على موقع إيباي، من النوع الذي يستخدم داخل الدمى، وسجلتُ والدي وهو يقرأ إحدى الترجمات، بصوتٍ يشبه، بحسب تصوري، صوت هانس: إنجليزي بلكنة هولندية. ثم وضعتُ الصندوق داخل عصفور صنعته من الكرتون، رمزًا مناسبًا، كما ظننتُ، لجهود الترجمة. ثم شغلتُ التسجيل الصوتي للقصيدة، وأتبعته بمقطع قصير يحتوي على غناء العصفور. وبعد الانتهاء من هذا المشروع، وضعته في درج ونسيته على الفور.
عندما جلستُ لكتابة هذا المقال، تخيلتُ هانز المراهق، الذي يقرأ الطلع في كفوف الناس. تذكرتُ صديقي ذو العينين الزرقاوين، في البلد الثالث، وهو يستخدم كف يده كخريطة لمانهاتن ثناء سرد حكاياته لي. دلائل وتباشير.
عندما عدتُ للعمل على أعمال هانز لودايزن بعد مشروع الطائر المصنوع من الكرتون، كنتُ أعيش في الولايات المتحدة، بلدي السادس من الإقامة. أعدتُ قراءته أساساً لأنه كان هولندياً في أمريكا، لذا اشتريت سيرته الذاتية التي كتبها كوين هيلبردنك. بعد سنوات من تجميع مخطط تقريبي من شعره، أدهشني كيف أنه يعكس حياتي، بل حتى ينذر بها: اندفاع باتجاه الغرب عبر المحيطات، في حالتي، في لوس أنجلوس، حيث وقعتُ في الحب وتوقفتُ عن تصديق أن كوني مثلية سيحكم عليّ بالوحدة. بالانتقال عبر البلدان، كنتُ أتخلص من طبقات من انعدام الأمن ورهاب المثلية الداخلية، وأصبحتُ خفيفة مثل قصائد لودزين.
ثارت بداخلي الرغبة في تخيل هذا الشاب الهولندي – قبل سبعين عامًا مني، بعشرين عامًا كاملة قبل ظهور حركة حقوق المثليين – وهو يقع في الحب في نيو أورليانز ويتمشى في سنترال بارك. عندما عدتُ لقراءة شعره، رأيتُ عالم الأحلام الذي يعمه الفرح الغرامي. لقد أدركتُ مدى قوة تصريحاته: تلك الرغبة النشطة التي لا تنتهي: سأفعل، سأفعل، سأفعل، والتي تبلغ ذروتها في قدرته على القول وفي تحد كامل لعصره: من يهتم إذا كنت جيدًا أو شريرًا (…) أنا في حالة حب / بدون خجل.
مثل قصائده، كانت لحظات سعادته قصيرة، ومضات تنطفئ بسرعة. أقام علاقة حب في نيويورك مع جوليو توريس، راقص من برونكس، لكن الفشل الأكاديمي أجبره على العودة إلى هولندا. بعد ذلك بوقت قصير، قُبض عليه بسبب ممارسة الجنس في حديقة عامة – بعد الحرب العالمية الثانية، شنت الشرطة حملات على الرجال المثليين رداً على ما كان يُنظر إليه على أنه إضعاف للأخلاق في زمن الحرب. على الأرجح نتيجة لاتصالات ومعارف والده، أسقطت التهم، لكنها كانت حلقة مهينة للغاية في حياته. كان يحلم بالهروب من هولندا مرة أخرى، بأن يصبح دبلوماسيًا. ولكن منذ عودته المترددة إلى الوطن، عانى من الإرهاق المستمر وفي عام 1950 شُخص بسرطان الدم. توفي في مصحة بسويسرا عن عمر يناهز ستة وعشرين عامًا، بعد أشهر فقط من نشر مجموعته الشعرية الأولى.
في هولندا، وصف هانس لوديزن غالبًا بأنه «شاعر الحالمين»، وقد حظي بدرجة القداسة، شفيع المراهقين المضطربين. ربما هذا هو السبب في ابتعادي عنه لفترة. بعد مشروع العصفور المصنوع من الكرتون، وقبل الوصول إلى الولايات المتحدة، فضلتُ كتابًا اعتبرتهم أكثر وعيًا اجتماعيًا. لكن من السهل تجاهل معلمينا بعدما نتعلّم منهم. من راحة الحاضر، يسهل عليّ القول: بالطبع، سأعيش حياة إبداعية لنفسي في منتصف العالم، وبالطبع سأرتدي قبعة واظهر هويتي الكويرية بفخر، وبالطبع سأنشر ترجمات شعرية أفضل ومنقحة في مجلة. وبالطبع، سأصل في النهاية إلى تسوية مع بلدي..
ومع ذلك، لفترة طويلة، لم تكن هذه الأشياء واضحة على الإطلاق. بالنظر إلى عمل هانز لوديزن الآن، أنا معجبة بالطريقة التي تمكن بها من تحقيق الكثير في حياته القصيرة – للاستيلاء على نمط الحياة وصناعة الفن بالكامل بهذه الثقة. عاش حياة كويرية مبهجة وقدم مساهمة فريدة في المشهد الأدبي الهولندي بينما كان يقف خارجه تماما. بالنسبة لي، كان علامة، نذير، روح إرشادية لطيفة. في قصائده رأيت ثقب المفتاح يفتح على حياة جديدة، ثقب كبير بما يكفي للتسلل من خلاله.
